مساء الخير.. 

أكتب هذه الرسالة إلتزامًا بالعهد والوعد مع نفسي.. أنْ أفعل فقط الأشياء التي تبعث الحياة على قلبي.. 


أتدرون متى بدأ هذا الوعد؟.. لحظة الموت.. نعم.. فقد عشت شعور الموت مئات المرات قبل أن استردّ شعور الحياة من جديد.. 

تزامنًا مع نهاية عشريناتي ازدادت رغبتي وشهيتي للحياة بشكل عجيب.. ولا أعلم إن كانت تزداد أم أنها فقط تعود.. فلطالما كنتُ حية..  ولطالما استمتعت بتفاصيل الحياة الصغيرة التي عادة ما أجدها في أماكن لا يجدها أحد غيري.. 

فبعيون فاطمة الصغيرة.. كانت الحياة تكمن في حبّات الثمار التي قطعت رحلة طويلة لتصل إلى يداي الصغيرتان، ورحلة صناعة الطاولة بداية من وجودها كنبتة، ثم شجرة ثم لوح أخشاب في يد النجار.. 

كان عقلي يسبح في ملكوت رحلات الأشياء.. فآمنت بالرحلة وما تحمله من معاني.. وأُلهمت بالقصص التي تهبها لنا الرحلات على الطريق.. قرأتُ هوامش الكتب حتى وجدت من بينها أجوبة وقصصًا لم أجدها في الكتب نفسها..

لكن إن كانت فاطمة ولدت بكل تلك المشاعر الحيّة؟ فأين ذهبت؟ أو كيف ماتت؟ 

الحقيقة.. الحقيقة.. أنها دُفنت في أول يوم لها في الجامعة..

تاهت فاطمة وتاهت كلماتها، مشاعرها، أشعارها في غيابات جب طب الأسنان.. 

يوم، ثم شهر، ثم سنوات من الضياع، والتوهان وإجتراع الموت مع موعد محاضرة الثامنة صباحًا.. لتموت بداخلي الحياة وتحيا الغربة، الانفصال، عدم الانتماء، الخوف، المجهول، ومحاولات يومية للنجاة.. 

هل أبالغ حين أصف الرحلة بالموت؟ لا فهذا أعمق شعور يصف ما كنت أعيش. 

اشتقت حينها لـ فاطمة التي أعلم.. فاطمة التي أحب..

ماذا سيحدث لو أننا لم نفترق*؟ ماذا سيحدث لو كانت خطانا إلى الحياة تقترب؟.. 

لكن أبى الموت إلّا أن يعبر من خلالي.. لتحيا الحياة

انتهت سنوات الجامعة، والدرس الوحيد الذي تعلمته.. رائحة الموت.. لم يكن فقط موتًا لحلمي ولا كلماتي.. ولا حتى صوتي.. لكن موت لجزء كامل من كياني..

ثم عاهدت نفسي أن لا أتواجد في أي مكان أو زمان أو علاقة أو وظيفة تجعلني أستشعر ذلك الشعور..

أوفيت عهدي مع نفسي وفعلت.. أعلنت الخروج من غيابة الجب والعودة للحياة من جديد.. كل مرة بدرجة مختلفة وبطريقة مختلفة

لماذا هذه القصة الآن؟ 

لأنني أحتفل اليوم معكم ببدء دراسة دبلومة الإرشاد النفسي من جامعة عين شمس.. 

فبعد مساعدة أكثر من مئة عميلة، وأربعمئة جلسة ارشادية.. والكثير من المقاومة للدراسة من جديد.. بدأت الدراسة..منهج ومواد تشعرني بالحياة.. محاضرات تغذي روحي قبل عقلي..

والحقيقة أنّ شغفي للدراسة يزداد أكثر وأكثر.. فمتحمسة للمزيد من المناهج والدراسات.. 

فمنذ بداية عمر الـ 29 وعادت فاطمة للحياة بأقوى قوتها.. عادت لتدرس ما تحب، وترتدي ما تحب، تقرأ هوامش الكتب، وتلعب مع القطط، وتتأمل رحلات الفواكه والقهوة والماتشا.. 😃😃

(في التدوينة اللي فاتت قولتلكم أعطتني الحياة فرصة ثانية.. وشكلي استغلتها صح )

ومن منتصف كل ذلك.. تساءلت من جديد لو أننا لم نفترق؟ لو أنني لم أعلم طعم الموت.. والله لما استشعرت الحياة.. 

ولأول مرة أشعر بالإمتنان لطب الأسنان.. فلن يختار أحد الحياة بتلك الشجاعة إلّا حين يتجرع الموت بتلك القسوة.. وبرأيي ليس هناك ارتباطًا شرطيًا بينهما.. لكنها القصة كما عشتها.. 

فما عدت أخشى الموت فمن بعده دائمًا حياة..

والآن سؤالي لك.. هل ترغب في الحياة بقوة؟ هل مستعد أن يموت شيئًا بداخلك من أجل أن تحيا؟ 

شكرًا لقراءتك ووقتك وشهودك


أتمنى لك حياة مليئة بالحياة

فاطمة سليم


*”لو أننا لم نفترق” عنوان قصيدة مشهورة للشاعر الحبيب جدًا على قلبي فاروق جويدة 


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *